ليلة الوداع

5/3/2025

"وقف عمري عند يوم عادي
عادي جداً
بكيت فيه لأن شخصاً ما مات
عند يوم روتيني جداً
فهمت فيه معنى الحزن العادي
كل الذي عشته بعد ذلك
ليس لي
لا أعرفه
لا يشبهني
ولم تسألني الدنيا
ان كنت أقدر عليه ولا مرة
أنا, ونحن
الجميع هنا
نسينا أرواحنا عند مساء هادئ
انتظرنا فيه الغروب
قبل أن نغادر البحر
لأجل صورة,
أو لحظة سعيدة
لم يكن حينها ينتظرنا الموت
وكان معنا كل الوقت
لنعود متعبين
"إلى البيت""

الآء أيوب

كان الوقت منتصف الظهيرة, ذاك الوقت المستقطع من الحياة الذي لا يجيد فيه المرء بفعالية أن يصنع أي شيئ أو يفكرأو يشعر بشيء حتى, كان ذلك قبل أن تنساب على خدي دمعة ثقيلة بطيئة وحارة في الوقت ذاته, انهمرت بعدها اخراوات استعدت فيهن قدرتي على الشعور في ذلك الوقت. كان ذلك عندما قرأت تلك الكلمات ,تلك الذكريات المرهقة الممزوجة بالتعب والفقد والألم
شعرت بألم مريح في صدري, ذاك الألم الذي يفتح شقا مع عبوره للأوجاع الأخرى أن تنساب بدلا أن تظل حبيسة, انه ذات الحديث وتلك الكلمات وتلك المشاعر التي في صدري تماما وكنت عاجزة عن قولها أو حتى ادراكها تقولها صديقتي الآء على لساني ولسان كل المتعبين الذين انهكتهم الحرب
من أنا؟
لم أعش يوما في غزة ولم أزرها قط, لكني أعلم جيداً كيف تمضي الأيام العادية بكل ما فيها من تعب ونمطية وضحكات مواقف عابرة, ثم كيف ينتهي يوم الأيام العادية في الفراش, الفراش الدافئ الذي ننهال عليه في نهاية كل نهار ليتيح لنا في صباح يوم نمطي تالي أن نعيش يوما عاديا آخر, بكل ما في العادية من تعب ونمطية وضحكات مواقف عابرة قد لا نذكرها أبدا

أعدت قراءة تلك الكلمات وحفظتها في مدونة على جهازي المحمول متبوعة باسم صديقتي التي تمنينا أن تجمعنا الايام ونلتقي في يوم ما, عندما تبادلنا التهاني والتبريكات بانتهاء الحرب أو ظننا انها فعلت, قبل شهرين من الآن قبل أن يخرق العدو اتفاق الحرب, حفظتها على جهازي وكتبت اسمها آخر النص كي لا يشتبه علي الظن يوما أني أنا من قام ببوحها
أعدت قرائتها, تلك الكلمات, الذكريات ولربما الامنيات البسيطة المباشرة, الصادقة والعذبة والواضحة دون تكلف أو ترميز .. ه
هل كان الأمر-البوح- بسيطا الى هذه الدرجة؟ ولماذا لم أتمكن من قوله اذا كان كذلك فعلا؟ اذن, فقد كان معقدا الى ذاك الحد؟ وما الذي يجعل الأشياء البسيطة تتركب وتتعقد حتى تصير احجية هكذا؟ لقد ثقبتِ جدار كومة من الألم يا الآء, ثقبا صغيرا وناعم, فسمحتِ لها بالتحرر والانسياب ببطئ وتفكر موجع, عل هذا كان أفضل من أن تنفجر صدفة في دفعة واحدة أوتظل حبيسة الأبد تصارع بعضها بعضا وتصارعني .. الألم بالتدريج فعال أكثر ويسمح بالتعقل والإدراك, وعلى كل حال فهو رفاهية قد أمتلكها ولا يمتلكها آخرون, وأنت يا الآء واحدة منهم

..
ثمة لوحة زيتية أنشأتها قبل ثلاثة أشهر من الآن على وجه التقريب, بدأت بإنشائها بالأحرى وتمكنت من منحها ملامحها الأصلية التي ستمضي بها الى آخر العمر, رسمت فيها غزة وبحر غزة وقمر غزة منعكسا على مائها, تتلألأ أنواره على بحرها الشاسع الأبدي في ليلة مسالمة تحلق فيها الطيور بدلا من الصواريخ والطائرات والقنابل, ليلة هادئة ومؤلمة تتيح للمرء فيها أن يراجع آلامه وأحزانه وفقده , ليلة صماء لم يتبقى فيهاحاجة للكلام أو النحيب أو البكاء, انتهى فيها كل شيء كأنها آخر ليلة في عمر هذا الكون, كأنها ليلة الوداع
المدينة مدمرة ولا أحد يعلم ان كان هناك أحياء بعد او أن جميع الأرواح حلقت بدمائها نحو السماء. هذه لوحة ذاتية, لوحتي ومشاعري ومخاوفي وهواجسي التي ما ان حاولت تسريبها عبر الوان وخطوط زيتية وبدات أنجح في ذلك, حتى انحصرت فجئة في منتصف البوح والطريق ولم تعد قادرة على العبور نحو أي مكان آخر
توقف العمل وتوقفت عن إدراك الشعور والخوف ومحاولات فهمه وتفهمه, لففتها وركنتها جانبا في سلة الأعمال العالقة.. المشاعر العالقة في وصف أدق, حتى عادت الآء بذكرياتها وآلامها تلك, ترائى المشهد على بصري من جديد وهبط الشعور على صدري من جديد أيضا, والذي هو ليس شعور محض يجيء ويذهب ولا فعل يُتَرجم الى أي شيء ولا ذكرى ولا خيال أو وهم , انما أرواح مجروحة تطير وتطير وتحلق فوق تخوم الذاكرة .. ذاكرة الحرب
..
انها عقدة ذنب الناجي, تلك الوخزة التي ترافق المرء في كل تفاصيل حياته حتى وهو يغني اذا فَعَل, المنبه الذي لا يتوقف عن الرنين ولا يمكن ايقافه, ماذا يعني أن يقضي كل هؤلاء الأبرياء دفعة واحدة؟ في أقل من سنتين؟ ما معنى الزمن؟ انه الوقت الذي تبخرت فيه حيوات أكثر من اثنين وخمسون ألفا في تلك الفترة الشحيحة من العمر
من منا لا يشعر بالتهديد المباشر؟ ثمة شعور حقيقي بالتهديد, مَن رفع الحصانة عن قتل الأبرياء والأطفال والمرضى وهدم المساجد والكنائس وحرق المدارس والمستشفيات ومراكز الايواء؟؟ من يضمن أبنائه من يضمن أهله وأصدقائه من يضمن ألا يكون بنفسه هو التالي؟
مأفون ذاك الانسان الذي يظن أن التهديد يُحسب بما يحل على حياته بين اليوم وغد, بين العام الآني والقادم, مأفون ومُغيب على عقله ذاك الذي يعيش ويفكر على هذا النحو
على سيرة التفكير, أفكر بضرورة الشفاء والتعافي من أيام الحرب هذه والتي اخترقت كل تفاصيل الحياة, وهو كفكرة كان من البديهي المُدرك انها حق للإنسان وواجبه تجاه نفسه وأبنائه ومسؤولياته أجمع, ثم أفكر بمن عليه أن يفكر في حق غزة بالتعافي؟ وحق وواجب أبنائها تجاه أنفسهم وأبنائهم ومسؤولياتهم أجمع؟ لماذا أصبحت الحياة هكذا كدائرة من الذنب والواجبات والعُقد والحقوق الضائعة, تغذي بعضها بعضا؟
عقدة الذنب أمر صحي, النجاح بالفرار منها مرعب يكشف أنانية الأنسان وحيوانيته وقدرته على الإنفصال عن قيمه ووجدانه, العيش فيها مظلم ومرهق لكنه حق.

Address

Irbid - Jordan

Join our collectors list