جولات فنية
2/3/2023
منذ عامين بدأتُ أولى جولاتي الفنية المتسلسلة لالتقاط مشاهد زيتية من مدينة إربد وضواحيها ، أتذكر ذلك اليوم بوضوح شديد ، كنت منهكة من التمارين الكثيفة الممتدة منذ عدة أشهرلإنجاز مشروع تخرجي من الجامعة على آلة البيانو، وعلى نحو يقبل التعميم لم أكن أفعل شيئاً في تلك الفترة سوى التمرن على أدائه منذ مطلع اليوم وحتى انقضاؤه ، كانت فترة مرهِقة وجميلة في الوقت ذاته ، لكنني شعرت في لحظات عديدة أن عليها أن تنقضي وبأفضل حال
قمت بأدائه في أحد صباحات أيار الباكرة من منزلي عبر كاميرا تطبيق زووم ، أمام لجنة مختصة من أساتذتي في الجامعة ، فقد كنا لا نزال في زمن كورونا ، وبعد أن انتهيت ، استلقيت على الكنبة المجاورة ، خلعت قبعتي والزينة الملحقة بزي عازفة البيانو، ثم غصت في نوم عميق وأنا أفكر بالصفاء والمتعة التي ستكون عليها حالتي الذهنية وهي مفرغة من محاولات تنظيم الوقت وإفراغه من أجل التمارين القسرية المكثفة خلال الفترة الماضية ، حرية ومساحات شاسعة من الوقت لا أعلم كيف عليّ أن أديرها أو أملؤها ، قلت في نفسي سأُشاهد العديد من المسلسلات والأفلام ، سأذهب للتسوق وشراء فساتين مزهرة بعيداً عن الازياء العملية التي اتبعتها خلال فترة دراستي ، ربما سأقضي وقتاً في المقاهي المحيطة ، باختصار فكرت في عمل كل شيء ، الأشياء التي لا أفضل فعلها قبل الأشياء التي أحب


عندما استيقظت لم أفعل شيئاً من مما سلف ، اتجهت إلى غرفة المرسم المنزلي ، تناولت عُدتي وخرجت برفقة سراج إلى حقل مجاور كنت أشاهده من نافذة المرسم الجنوبية وأشعرعلى نحو مريح للأعصاب كلما نظرت إليه ، حقل على تلة أخضر دافئ ، ليس بلون القمح ولا بلون الأعشاب البرية اليانع المألوف ، عندما وصلت إليه أدركت أنه حقل شوفان بريّ ، بعضه جف بفعل الشمس فأصبح لونه مائلاً إلى اللون الذهبي ، وبعضه الآخر لا يزال أخضراً في طور الجفاف ، في أقصاه بيتين عتيقين وأشجار حرجية طاعنة في السن ، يحوم في سمائه سرب من الحمام بمسار منتظم ، في الزيارة الأولى راقبته جيداً ، وفي اليوم التالي رسمته.
كان هذا العمل الانطباعي الأول ضمن سلسلة حقول إربد التي امتدت على مدار عامين رسمت خلالها أكثر من مئة عمل وعمل تحضيري بعِدة وسائط اغلبها بالزيت



في العام الأول -2021- اعتمدت على نحو أساسي على الرسم المباشر للحقول ، ومن وحي الأعمال المباشرة أنتجت عدداً من الأعمال في مرسمي . بالطبع ثمة تحديات للرسم المباشر والحر في الطبيعة ، لكني من دون مبالغة لم أشعر بها ، فقد كانت كاللعب مع الطبيعة ، التغير المستمر لظروف الإضاءة , موضع وحدة الشمس ، بالإضافة لحركة الغيوم وشكل انعكاسها على الأرض وأمور أُخرى لا يمكن التنبؤ بها مسبقاً ، كل هذا يسهل التعامل معه مقارنة بأعمال ساعة الغروب أو ما بعدها بقليل ، والتي تعتمد على مزيج بقايا ضوء الشمس مع الإضاءة الصناعية للشوارع والبيوت ، كانت الأكثر تحدياً، كان لا بد من اختيار مشاهد بعناصر نمطية قابلة للتجريد من خلال اللون ، بالإضافة إلى باليت ألوان محدود جداً ، طبعاً العنصر الجمالي ومدى ملامسة المشهد إلى نفسي هو الأهم ، كل شيء قادر على أن يأتي تباعاً لذلك
في الميدان لا أُفكر في هذه الأمور ، أما عندما أرجع الى البيت وأنظر بتمعن لما رسمته تصطف الكلمات في رأسي من دون دعوة ولا جهد لتقييم ما جرى . ولا يمكن وصف ذلك في كل مرة وتباعا لكل النتائج مهما كانت إلا أنها متعة خالصة
انقضى العام بمجموعة لطيفة من الأعمال ، كان من المفترض أن ينتهي المطاف بها في معرض فني ، لكنه التغى قبل موعده بأيام بسبب عودة ظروف وباء كورونا وإجراءات الحظر، في البداية شعرت بحزن ما ، لكن لاحقاً حمدت الله على ذلك ، فقد أدركت أن الجهة التي تم التنسيق معها غير جديرة بالتعاون أو عرض أعمالي لديها ،





في العام التالي -2022- عدت مع عودة الربيع إلى حقولي ، اكتشفت عدداً جديداً ومختلفاً عن سابقه منها ، شعرت بحرية أكبر وتجاوز بمستوى أعلى للتحديات التي قد تمر خلال ساعات الرسم المباشر في الطبيعة ، كانت فرشاتي أكثر عفوية وحرية ، التزمت بالمشاهد التي أمامي بدرجة أقل ، كان هناك حضور واضح لرغبتي بما أرغب أن تكون عليه بعض التفاصيل حتى لو اختلفت عن الواقع ، كانت روح الأشياء حاضرة ومبالغاً فيها أكثر من جسدها الفعلي ، أنتجت عدداً من الأعمال خلال جلسات الرسم الحي للطبيعة وعدداً أكبر في مرسمي لانطباعاتي عن الحقول وبعض المدن التي زرتها والتي لم أزرها ،كالقدس مثلاً ،
وهذا التسلسل الذي جرى خلال العامين على نحو غير مقصود أو مفتعل بالطبع لم أكن أنا من أول من مررت أو أتيت به إلى الواقع ، بل نشأت على نهجه اثنتان من أعظم المدارس الفنية في الرسم ، المدرسة الانطباعية والمدرسة ما بعد الانطباعية






بالإضافة لذلك ، بدأت العمل على مجموعة من أعمال الطبيعة الصامتة من داخل المنزل ، تنوعت بين مشاهد بيتية غالباً مع إضاءات بارزة من مصدر طبيعي أو غيره ، إضافة لسلسة فاكهة رسمت بالألوان الزيتية ، أعمل عليها بين فترة وأُخرى كتمارين لالتقاط العناصرغير المألوفة في مشاهدي ، عادة ما تكون ضمن وقت محدد وباليت ألوان محدد أيضاً





هذا العام ومنذ مطلعه كان الشعور غريباً وغير مألوف بالنسبة لي ، خرجت مع بداية الربيع من باب العادة ، لم يكن لدي أي فضول حقيقي نحو الحقول ، ربما التقاط الصور لها وفقط ، حاولت إقحام نفسي بالأمر فرسمت عدداً من الحقول ، لكن في داخلي شيء ما كان يمارس الأمر كروتين ممتع فقط ، لم يكن الشغف أو الرغبة الجامحة لفعل ذلك هو المحرك الحقيقي أبداً ، كان خاطري سارحاً في أماكن أُخرى ومشاهد أُخرى ، أدركت ذلك فوراً ولم أرغم نفسي على شيء،
بدأت برسم مجموعة من المشاهد الحياتية التي بدأت في الحقيقة منذ الربع الأخير من العام الماضي ، جعلاني هذه المشاهد أشعر بالتنوع والإثراء والرغبة في تعزيز ذلك أيضاً
لظروف صحية يتحتم علي أحياناً أن أرسم بألوان الآكريليك ، صنعت له زاوية في البيت مطلة على واجهة شرقية جنوبية ، في الصباح تملأ أشعة الشمس ممزوجة بصوت العصافير المجتمعة على شجرة الكينا المكان فتغمره بسحر خاص يجعله صالحاً للتأمل أيضاً . أما مرسمي فأبقيته للألوان الزيتية لكونه عالي التهوية مما يساعد الأعمال الزيتية على الجفاف بوتيرة أسرع وفي مكان مغلق يمكن إقفاله ، فلا تنتشر رائحة الطلاء في المنزل ، وهكذا تم احتلال البيت بنجاح :)ـ


